سورة الشورى - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشورى)


        


ولما كان المراد بالمشركين مع عباد الأوثان أهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله لقبولهم منهم التحليل والتحريم، وكان ذلك مفهماً لأنهم فارقوا أهل الطاعة، وكان ذلك موهماً لأنهم ما فارقوهم إلا عن جهل، قال عاطفاً على ما تقديره: فأتى الرسل إلى الناس فأقاموا لهم الدين وبينوا لهم غاية التبيين فاجتبى الله بعضهم وأضل بعضهم فافترقوا: {وما تفرقوا} أي المشركين من قبلكم من أهل الكتاب وغيرهم في أديانهم {إلا} وأدخل الجار لعدم استغراق الزمان فقال: {من بعد ما جاءهم} أي على ألسنة أنبيائهم الذين لم يدعوا لبساً {العلم} أي بما لا يسوغ معه التفرق ومنه أن الفرقة ضلالة، وأشار الجار أيضاً إلى أن التفرق كان مع العلم لم يكن طال الزمان فتطرق إلى علمهم نسيان كل ذلك بياناً لعظيم قدرة الله تعالى في تصرفه في القلوب، فإياكم أن يكون حالكم كحالهم فليشتد خوفكم لربكم ورجاءكم له.
ولما كان ترك طريق العلم عجباً ومستبعداً، قال مبيناً أن الذي حملهم على ذلك حظوظ الأنفس التي لا نجاة منها إلا بعصمة الله تعالى: {بغياً} أي حال كون تفرقهم عداوة ولا شبهة فيها هي بينة الظلم لأجل حظوظ الأنفس واتباع الأهواء التي يجب على العبد البعد عنها بأن لا تكون له إرادة أصلاً بل تكون إرادته تابعة لأمر مولاه.
ولما كان مطلق البغي منافياً لمكارم الأخلاق، فكان ارتكابه عجباً، زاد في التعجب منه ببيان أن البغي لم يعد جماعتهم إلى غيرها، بل كان خاصاً بها، فقال: {بينهم}.
ولما كان ذلك يقتضي المعالجة، قال عاطفاً على ما تقديره: فلولا قدرة الله ولطفه لما اجتمعوا بعد الفرقة أبداً: {ولولا كلمة} أي لا تبديل لها {سبقت} أي في الأزل بتأخيرهم إلى آجالهم. ولما كان إمهالهم والرفق بهم رحمة لهم، بين أن ذلك إنما هو لأجل خير الخلق ليكونوا أتباعاً له فيزدادوا لذلك شرفاً، وأفرده بالذكر تنبيهاً على ذلك فقال مؤنساً له صلى الله عليه وسلم بلفت الكلام إلى صفة الإحسان إرضاء له بما يرجوه في امته، وزاد ذلك بالإضافة إلى ضميره فأفهم أن إحسانه إليهم إحسان يليق بمقامه، ويلتئم بمراده الشريف ومرامه: {من ربك} أي المحسن إليك بجعلك خير الخلائق وإمامهم، سبقت الكلمة بإمهالهم {إلى أجل مسمى} ضربه لآجالهم ثم لجمعهم في الآخرة {لقضي} على أيسر وجه وأسهله {بينهم} حين الافتراق بإهلاك الظالم وإنجاء المحق.
ولما أخبر عن حال المتقدمين، وكان من في زمانه صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب يدعون غاية العلم بها والاجتماع عليها، وهي كلها داعية إلى المبادرة إلى إرث هذا الكتاب الخاتم الجامع، وكان بعضهم يتلبس بالتنسك والإعراض عن الدنيا وغير ذلك مما يقتضي أنه على بصيرة من أمره، وإنكار أن يكون عنده نوع شك، قال على وجه يعم غيرهم، مؤكداً تنبيهاً على ذلك: {وإن الذين} ولما كان المراد الوصول إلى الكتاب من غير منازع، ولم تدع حاجة إلى العلم بالموصل، بني للمفعول قوله: {أورثوا الكتاب} أي الكامل الخاتم، وهم هذه الأمة بما نسخ كتابهم ما تقدمه كان غيرهم كأنه مات، فورثوا كما قال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} [فاطر: 32] فكان حالهم في تمكنهم من التصرف في الكتاب بالحفظ والفهم وعدم المنازع في ادعائه حال الوارث والموروث منه فقال: {من بعدهم} أي المتفرقين، وأثبت الجار لعدم استغراق الزمان {لفي شك منه} أي إيراث للكتاب المقتضي للاجتماع لا للتفرق لما فيه من الخير، وذلك لعملهم عمل الشاك فيقولون: إنه سحر وشعر وكهانة، ونحو ذلك، وأن الآتي به غير صادق بعد اطلاعهم على ما اتى به من المعجزات وبعد معرفتهم به، أما العرب ومن ساكنهم من أهل الكتاب فبإعجازه مع ما في أهل الكتاب من البشارة به، وأما غير من ساكنهم فبدعوة كتابهم {مريب} أي موقع في التهمة الموقعة في الحاجة الموقعة في صروف الدهر وهي شدائده وآفاته ونوائبه هذا على أن المراد كتابنا، ويجوز أن يكون الضمير لأهل الكتاب خاصة والكتاب كتابهم، وشكهم فيه عملهم بغير ما دعاهم إليه من اتباع كتابنا باتباع نبينا صلى الله عليه وسلم.
ولما ثبت بهذا زيغهم عن أوامر الكتاب الآتي من الله، سبب عنه أمره صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الناس ما ينفعهم عن رسالة ربه الذي أنزل تلك الكتب في آية واحد مفصلة بعشر كلمات في كل كلمة منها حكم برأسه، قالوا: ولا نظير لها إلا آية الكرسي فإنها عشرة أصول كل أصل منها مستقل برأسه فقال مسبباً عن حالهم الاجتهاد في إزالتها والعمل بضدها: {فلذلك} أي لهذا الوحي العلي الرتبة الذي وصينا بمقاصده جميع الرسل أصحاب الشرائع الكبار من أولي العزم وغيرهم، أو لذلك التصرف المباعد للصواب والشك في أمر الكتاب.
ولما كان سياق الدعوة للخلق إلى ما أوحى إليه فأنزل عليه، قدم قوله: {فادع} إلى من أرسلك الله به من الاتفاق على ما أمر به الإله من الاجتماع على الملة الحنيفية. ولما كان الداعي لغيره لا ينفع دعاءه لذلك الغير ما لم ينفع نفسه، قال: {واستقم} أي اطلب القوم من ربك على مشاق الدعوة ليعينك عليه وأوجده على ما يدعو إليه كتابه مما تدعو إليه ويجب عليه {كما أمرت} ممن لا أمر لغيره في تفاصيل الدعاء من اللين والغلظة والتوسط وغير ذلك من تحديث الناس بما تحتمل عقولهم وتربيتهم على حسب ما ينفعهم.
ولما كان كل ما خالف كتابنا هوى، وكل ما خالف كتابنا فهو على مجرد الهوى، قال: {ولا تتبع} أي تعمداً {أهواءهم} في شيء ما، فإن الهوى لا يدعو إلى خير، والمقصود من كل أحد أن يفعل ما أمر به لأجل أنه أمر به لا لأجل أنه يهواه.
ولما كانوا قد تفرقوا في الكتاب وشكوا فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، أمره بما يخالف حالهم فقال: {وقل} أي لجميع أهل الفرق، وكل من يمكن له القول فإنك أرسلت إلى جميع الخلق: {آمنت بما} أي بكل شيء. ولما كان أكمل الناس إيماناً أكثرهم استحضاراً لأوصاف الكمال من الجلال والجمال، صرف القول إلى الاسم الأعظم إشارة إلى سلوك أعلى المسالك في ذلك فقال: {أنزل الله} أي الذي له العظمة الكاملة {من كتاب} لا أفرق بين شيء من كتبه ولا أحد من رسله، بل كل كتاب ثبت أنه نزل على رسول ثبت رسالته بالمعجزة فأنا به مؤمن وإليه داعٍ كما اقتضاه كمال القوة النظرية، قال أبو علي القالي في ذيل الأمالي: حدثنا أبو بكر- هو ابن الأنباري- حدثنا أبو جعفر محمد بن عثمان حدثنا صحاب بن الحارث أنا بشر بن عمارة عن محمد بن سوقة قال: أتى علياً رضي الله عنه رجل فقال: يا أمير المؤمنين ما الإيمان أو كيف الإيمان؟ قال: الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد، والصبر على أربع شعب: على الشوق والشفق والزهادة والترقب، فمن اشتاق إلى الجنة سلى عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن الحرمات، ومن زهد في الدنيا تهاون بالمصيبات، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات، واليقين على أربع شعاب: تبصرة الفطنة وتاويل الحكمة وموعظة العبرة وسنة الأولين، فمن تبصر الفطنة تأول الحكمة، ومن تأول الحكمة عرف بالعبرة، ومن عرف العبرة عرف السنة، ومن عرف السنة فكأنما كان في الأولين، والعدل على أربع شعب: على غائص الفهم وزهرة الحلم وروضة العلم وشرائع الحكم، فمن فهم جمع العلم، ومن حلم لم يضل في الحكم، ومن علم عرف شرائع الحكم، ومن حلم لم يفرط أمره، وعاش في الناس. والجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمنين، ومن نهى عن المنكر أرغم آناف الفاسقين، ومن صدق في المواطن فقد قضى الذي عليه، ومن شنئ المنافقين غضب لله وغضب الله له فأزلفه وأعلى مقامه، قال: فقام الرجل فقبل رأسه.
ولما أخبر بالعدل في القوة النظرية، أتبعه ذلك في القوة العملية فقال: {وأمرت} أي ممن له الأمر كله بما أمرني به مما أنزل عليّ {لأعدل} أي لأجل أن أعدل {بينكم} أيها المفرّقون في الأديان من العرب والعجم من الجن والإنس كما دعى إليه كمال القوة العملية، ثم علل ذلك بقوله: {الله} أي الذي له الملك كله {ربنا وربكم} أي موجدنا ومتولي جميع أمورنا، فلهذا أمرنا بالعدل على سبيل العموم لأن الكل عباده.
ولما كان الرب واحداً، انتج عنه قوله: {لنا أعمالنا} خاصة بنا لا تعدونا إلى غيرنا {ولكم أعمالكم} خاصة بكم لا تعدوكم إلى غيركم، لأنه لا داعي لأن نأخذ عمل بعضنا فنعطيه لغيره، لأن ذلك لا يفعله إلا ذو غرض، وهو سبحانه محيط بصفات الكمال، فهو منزه عن الأغراض، ولما وصل بتمام هذه الجملة في إزالة الريب وإثبات الحق إلى ما هو كالشمس لثبوت الرسالة بالمعجزات وإعجاز هذا الكتاب وتصادقه مع ما عند أهل الكتاب، وبيان هاتين المقدمتين اللتين لا نزاع بين أحد من الخلق فيهما كانت نتيجة ذلك: {لا حجة} أي موجودة بمحاجة أحد منا لصاحبه {بيننا وبينكم} لأن الأمر وصل إلى الانكشاف التام فلا فائدة بعده للمحاجة فما بقي إلا المجادلة بالسيوف، وإدارة كؤوس الحتوف، لأنا نعلم بإعلام الله لنا في كتابه الذي دلنا إعجازه للخلائق على أنه كلامه، فنحن نسمعه لذلك منه أنا على محض الحق وأنكم على محض الباطل، وقد أعذرنا إليكم وأوصلنا ببراهينه إلى المشاهدة فلم يبق إلا السيف عملاً بفضيلة الشجاعة.
ولما كان هذا موضع أن يقال: أفما تخافون الله فيمن تقاتلونه وهو عباده، أجاب بقوله مظهراً غير مضمر تعظيماً للأمر: {الله} أي الذي هو أحكم الحاكمين {يجمع بيننا} أي نحن وأنتم على دين واحد أراد فلا يكون قتال، وفي الآخرة على كل حال {فهو يحكم بيننا} {وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون} [الشعراء: 227] فما أقدمنا على القتال إلا عن بصيرة.
ولما كان الجامع بين ناس قد يكون مآلهم إلى غيره، بين أن الأمر فيه على غير ذلك، فقال عاطفاً على ما تقديره: فمنه كان المبدأ: {وإليه} أي لا إلى غيره من حيث هذا الاسم الجامع لجميع الصفات {المصير} حساً ومعنى لتمام عزته وشمول عظمته وكمال رحمته، وما كان فيما بين المبدأ والمعاد من الأمور التي كانت بحيث يظن أنها خارجة- لتصرف الغير فيها- إنما كانت ابتلاء منه يقيم بها الحجة على العباد على ما يتعارفونه بينهم، وما كان المتصرف فيها غيره فتصرفهم إنما كان أمراً طارئاً يصحح عليهم الحجة ويلزمهم الحجة.
ولما كان التقدير: فالذين رجعوا إليه طوعاً في هذه الدار بعد هذا البيان والإظهار، وتركوا الجدال حجتهم ثابتة ولهم الرضا والنعيم المقيم، عطف عليه قوله مبتدئاً بالموصول ليصله بما يفهم التجدد والاستمرار: {والذين يحاجّون} أي يوردون تشكيكاً على دينه الحق من الشبه ما يسمونه حججاً، ولعل الإدغام يشير إلى أن أهل هذا الضرب منافقون يلقون شبههم في خفاء فتشربها قلوب أمثالهم فتصير أهوية فيضعف أمرها ويؤيده تقييد الدحوض بما عند الرب {في الله} أي في دين الملك الأعظم ليعيدوا الناس بعدما دخلوا في نور الهدى إلى ظلام الضلال.
ولما كانت إقامة الحجة وإظهار المعجزة أمراً ملزماً لجميع من بلغه الاستجابة لوصول الأمر إلى حد من البيان سقط معه الجدال، قال معلماً إن ما كان في قوة الوجود يصح أن يطلق عليه أنه موجود، ومنبهاً بالجار على ذم هذا الجدال ولو قل زمنه: {من بعدما} ولما كان المقصود مطلق الاستجابة لا من مجيب معين قال: {استجيب له} أي استجاب له الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار الناس كلهم بما يبين لهم مستجيبين بالقوة وإن لم يستجيبوا بالفعل، فإن الأمر قد ظهر غاية الظهور، ولم يبق إلا العناد، فهذه الجملة هي المراد والثمرة من قوله: {لا حجة بيننا وبينكم}.
ولما كان من خالف ظاهره باطنه ضعيف الحجة هلهل النسج، قال معبراً بمبتدأ ثان مفرداً للحجة إشارة إلى ضعفها: {حجتهم} أي التي زعموها حجة، وأخبر عن هذا المبتدأ الثاني ليكون هو وخبره خبراً عن الأول فقال: {داحضة} أي زالقة فهي ذاهبة غير ثابتة لأجل أنها في معارضة ما ظهوره كالشمس بل أجلى، والعبارة لفتٌ إلى صفة الإحسان والعندية إشارة إلى شدة ظهور ما في حجتهم من الدحوض لأن {عند} للأمور الظاهرة المألوفة، وصفة التربية للعطف والرفق، والإضافة إلى ضميرهم تقتضي مزيد لطف وعطف، فهو إشارة إلى أنها هباء منثور عند تدقيق النظر ولا سيما إذا كان بصفة عزة وقهر وغضب، فالمعنى أن دحوضها ظاهراً جداً ولو عوملوا بصفة الإحسان ولو خصوا بمزيد عطف وبر، فأين هذا مما لو قيل لدى عليم قدير فإنه يفهم أن دحوضها لا يدركه إلا بليغ العلم تام القدرة، وهو مع ذلك غريب فيصير فيه نوع مدح لحجتهم في الجملة: {عند ربهم} أي المحسن إليهم بإفاضة العقل الذي جعلهم به في أحسن تقويم، فمهما جردوه عن الهوى، دلهم على أن جميع ما كانوا فيه باطل، وفيه إشارة إلى أن أدنى ما يعذبهم به قطع إحسانه عنهم، وأنه يظهر بطلان ما سموه حجة لكل عاقل فيورثهم الخزي في الدنيا والعذاب في الأخرى على أن قطع إحسانه هو عند التأمل أعلى العذاب {وعليهم} زيادة على قطع الإحسان {غضب} أي عقوبة تليق بحالهم المذموم ووصفهم المذؤوم ومنه الطرد، فهم مطرودون عن بابه، مبعودون عن جنابه، مهانون بحجابه. ولما أفهم التعبير ب على ذمهم باستعلاء النقم عليهم لم يشكل التعبير باللام، بل كان مفهماً التهكم والملام فقال: {ولهم} أي مع ذلك {عذاب شديد} لا تصلون إلى إدراك حقيقة وصفه، والآية مشيرة إلى الانتصار على أهل الردة وضربهم بكل شدة لسوء منزلتهم عنده كما كشف عنه الحال عند ندب الصديق إليهم بالقتال رضي الله عنه وأرضاه.


ولما جزم سبحانه بما توعدهم بعد بعد أن حكم على حجتهم بالدحوض، وكان لا يجزم بالشيء إلا من كان نافذ الأمر محيط الحكم، نبه على أنه كذلك، مبيناً ما به يعرف ثبات الحجج ودحوضها المستلزم للغضب من الله المستعقب للعذاب، بقوله لافتاً القول إلى الاسم الأعظم تنبيهاً على عظمة المخبر عنه: {الله} أي الذي له جميع الملك {الذي} وأشار بالتعبير بالإنزال إلى أن المراد جملة الكتاب الذي لا مطعن في شيء منه فقال: {أنزل الكتاب} أي أوجد إنزاله هو لا غيره {بالحق} أي متلبساً على أكمل الوجوه بالأمر الثابت الذي لا يبدل وبسبب العمل الحق العام للأقوال والأفعال والعقائد لتعرف الحجج الثابتة من غيرها.
ولما كان الكتاب آمراً بالعدل قالاً وحالاً، وكان من محسوسات أوامره التقدير بالمقادير الضابطة، قال مخصصاً معبراً بأقومها إشارة إلى أن الكتاب أعدل عدالة عند العقل وأبين من الميزان للحس: {والميزان} أي الأمر به مريداً به عينه حقيقة وجميعها بل جميع العدل الذي تقدم في لا عدل بينكم مجازاً. ولما ثبت أن من جادل فيه كانت حجته داحضة إذا حوسب في الساعة فكان معذباً، وكان التقدير بما هدى إليه السياق تسلية له صلى الله عليه وسلم فيما يقاسي في إنفاذ ما أمر به من العدل في جميع أقواله وأفعاله وصبره على أذاهم: فمن فزع إلى الكتاب في المعاني وإلى الميزان في الأعيان فبنى أمره على تحقق العدل فيهما بهما فاز، ومن أهمل ذلك خاب فدحضت حجته وسقطت عند ربع منزلته وما يدريك لعل من جار يعاجل في الدنيا بالأخذ لكون أجله الذي سبقت الكلمة بتأخيره إليه قد حضر، عطف عليه قوله موجهاً الخطاب إلى أعلى الخلق تعظيماً للأمر: {وما يدريك} يا أكمل الخلق {لعل الساعة} التي أشير إليها في هذه الآية بقوله: {عند ربهم} بعد أن صرح بها في غير آية. ولما كان تأنيث الساعة غير حقيقي لأنها بمعنى الوقت، ذكرها فقال: {قريب} فأفهم ذلك أنها ذات الشدائد وأن شدائدها ذكور الشدائد وأن قربها أسرع من لمع البرق لما له من الثبات في الحق، أو ذكرها على إرادة السبب أي ذات قرب، أو على حذف مضافة أي مجيئها، وعلى كل حال فهو دال على تفخيمها أي إنك بمظنة من قرب القيامة، فيقع بهم ما توعدوا به مما ينبغي الإشفاق منه، فيظهر فيها العدل بموازين القسط لجميع الأعمال ظهوراً لا يتمارى فيه أحد فيشرف من وفى، ويخزي من جار وجفا.
ولما تصور بهذا قربها مشاراً بالتعبير بلعل إلى أن حال المستعجل بها حال المترجي لشيء محبوب وهو جهل منه عظيم، شرع في تفصيل الناس في أمرها فقال مشيراً إلى أنه ينبغي للعاقل الاستعداد لها للخلاص في وقتها لظهور دلائلها من غير بحث عن قربها أو بعدها، فإنه لا بد من كونها {يستعجل بها} أي يطلب أن تكون قبل الوقت المضروب لها {الذين لا يؤمنون بها} أي لا يتجدد لهم ذلك أصلاً وهم غير مشفقين منها ويظنون أنها الباطل، وكان الحال يقتضي أن يكونوا أنفر الناس منها لكن حملهم على ذلك تكذيبهم بها واستهزاؤهم وظنهم عدم كونها جهلاً ممن هم معترفون بقدرته وعلوه وعظمته.
ولما دل على جهل الكافرين، دل على أضدادهم فقال: {والذين آمنوا} وإن كانوا في أول درجات الإيمان {مشفقون} أي خائفون خوفاً عظيماً {منها} لأن الله هداهم بإيمانهم، فصارت صدورهم معادن المعارف، وقلوبهم منابع الأنوار، فأيقنوا بما فيها من الأهوال الكبار، فخافوا للطافتهم أن يكونوا مع صلاحهم من أهل النار. ولما قدم الإشفاق تنبيهاً على أن العاقل ينبغي أن يخشى ما يمكن وقوعه، قال: {ويعلمون أنها الحق} إعلاماً بأنهم على بصيرة من أمرها، فهم لا يستعجلون بها، فالآية من الاحتباك: ذكر الاستعجال أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً، والإشفاق ثانيا دليلاً عل حذف ضده أولاً. قال ابن كثير: وقد روي من طرق تبلغ درجة التواتر في الصحاح والحسان والسنن والمسانيد أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت جهوري وهو في بعض أسفاره فناداه: يا محمد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من صوته: «هاؤم» فقال: متى الساعة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه: «ويحك أنها كائنة فما أعددت لها؟ فقال: حب الله ورسوله، فقال: أنت مع من أحببت» قال ابن كثير: فقوله في الحديث: «المرء مع من أحب» متواتر لا محالة، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة، بل أمره بالاستعداد لها- انتهى، وهو مشروط بالبراءة من أعداء الله بدليل قصة أبي طالب فإنه لم ينفعه حب الولي نفعاً تاماً بدون البراءة من العدو.
ولما أعلم بتعريف الحق أنها ثابتة كاملاً لا انقضاء له أصلاً ولا زوال لآثارها، أنتج قوله مؤكداً معظماً في مقابلة إنكارهم: {ألا إن الذين يمارون} أي يظهرون شكهم في معرض اللجاجة الشديدة طلباً لظهور شك غيرهم من: مريت الناقة- إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لتستخرج ما عساه يكون فيها من اللبن {في الساعة} أي القيامة وما تحتوي عليه {لفي ضلال} أي ذهاب جائر عن الحق {بعيد *} جداً عن الصواب، فإن لها من الأدلة الظاهرة في العقل المؤيد بجازم النقل ما ألحقها حال غيابها بالمحسوسات لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً.
ولما كان حاصل أمر الفريقين أنه أظهر خوف الكافرين في غاية الأمن وأبطن أمن المؤمنين في أزعج خوف، وكان هذا عين اللطف، فأنه الوصول إلى الشيء بضده، ويطلق على إيصال البر إلى الخلق على وجه يدق إدراكه، وكان أكثر ما يبطئ بالإنسان في أمر الدين اهتمامه بالرزق، أنتج ذلك قوله: {الله} أي الذي له الأمر كله فهو يفعل ما يريد {لطيف} أي بالغ في العالم وإيقاع الإحسان بإيصال المنافع، وصرف المضار على وجه يلطف إدراكه، قال القشيري: اللطيف العالم بدقائق الأمور وغوامضها وهو الملطف المحسن وكلاهما في صفته سبحانه صحيح، وأكثر ما يستعمل اللطف في وصفه بالإحسان في الأمور الدينية، وقال الرازي في اللوامع: هو اسم مركب من علم ورحمة ورفق خفي {بعباده} انتهى.
أما بالمؤمن فواضح، وأما الكافر فأقل لطفه به أنه لا يعاجله في الدنيا ولا يعذبه فوق ما يستحق في الأخرى، فالاسم الأول تخويف والثاني ترجية ظاهرة باطنها تخويف، إشارة إلى ما ينبغي من الخوف والرجاء، وأن يكون الخوف أغلب.
ولما كان أظهر ما يكون هذا الوصف في الرزق، فإنه يوسع على من لا حيلة له، ويحرم من هو في غاية القوة والقدرة، ويرفع الضعيف الجبان ويخفض القوي الشجاع، وكل ذلك على حسب ما يعلم من بواطنهم ويزيد من أعمالهم، قال دالاً على ذلك استئنافاً لمن سأل عن كيفية اللطف: {يرزق من يشاء} مهما شاء على سبيل من السعة أو الضيق أو التوسط لا مانع له من شيء من ذلك، ويمنع الرزق عمن يشاء إذا علم فراغ أجله فيتوفاه إليه فأجهدوا أنفسكم في طلب مرضاته، ولا تلتفتوا إلى الخوف من الحاجة فإنه قد فرغ من تقدير الرزق ونهى عن المبالغة في طلبه.
ولما كان ذلك لا يستطيعه أحد سواه لما يحتاج إليه من القوة الكاملة والعزة الشاملة قال: {وهو القوي} أي فلا يضيق عطاؤه بشيء {العزيز *} فلا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء.
ولما بين بهذا أن الرزق ليس إلا في يده، أتبعه ما يزهد في طلب رزق البدن، ويرغب في رزق الروح فقال على سبيل الاستئناف جواباً لمن يسأل: هل يكون الرزق بشدة السعي أو لا، وبدأ برزق الروح لشرفه: {من كان} أي من شريف أو دنيء {يريد} ولما كان مدار مقصد السورة على الدين، وكان الدين معاملة بين العبد وربه يقصد به ما يقصد بالحرث من حصول الفائدة، وكان الحرث من أجل أسباب المكاسب، وكانت الجنة قيعاناً غراسها ذكر الله، عبر عن مطلق الكسب بالحرث فقال: {حرث الآخرة} أي أعمالها التي تستنمي بها الفوائد. ولما كانت أسباب الحروث وثمراتها لا يقدر على تعطيلها وإنجاحها إلا الله، وكان الآدمي يظن لنفسه في ذلك قدرة، نبه سبحانه بالالتفات إلى أسلوب العظمة أن أمره سبحانه في ذلك لا يستطاع دفاعه ولا ممانعته ونزاعه: {نزد له} أي بعظمتنا التي لا يقدر أحد على تحويلها {في حرثه} بأن يعينه على الأعمال الصالحة بإنارة القلب وتصفية الحال وتهدئة السر ونفوذ البصر فيما يضر وينفع ويضاعف له ثوابها من العشر لكل حسنة إلى ما لا نهاية له ويغطيه، من الدنيا التي أعرض عنها ما قدر له إعانة له على ما أقبل عليه من الآخرة، وطوى ذكر الدنيا في هذا الشق تنبيهاً على أنها أحقر من أن تذكر مع أنه معلوم من آيات أخر {ومن كان} أي من قوي أو ضعيف {يريد حرث الدنيا} أي أرزاقها التي تطلب بالكد والسعي ويستنمي به مكتفياً به مؤثراً له على الآخرة {نؤته منها} ما قسمناه له، ولو تهاون به ولم يطلبه لأتاه، ولا ينال كل ما يتمناه ولو جهد كل الجهد، وأما الآخرة فكل ما نواه طالبها من أعمالها حصل له وإن لم يعمله {وما} أي والحال أن طالب الدنيا ما {له في الآخرة من نصيب *} أصلاً، روى أبيّ بن كعب رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والنصرة والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب» رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم- وقال: صحيح الإسناد- والبيهقي، وذلك لأن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، وهذا تهاون بها فلم ينوها وهي أشرف من أن تقبل على من أعرض عنها وتبعد عمن أقبل عليها حتى تهلكه في مهاويها، والآخرة تقبل على من أقبل عليها أضعاف إقباله، وتنادي من أدبر عنها لينتهي عن غيه وضلاله، قال الرازي في اللوامع: أهل الإرادة على أصناف: مريد للدنيا ومريد للآخرة ومريد للحق جل وعلا، وعلامة إرادة الدنيا أن يرضى في زيادة دنياه بنقص دينه والإعراض عن فقراء المسلمين وأن تكون حاجاته في الدعاء مقصورة على الدنيا، وعلامة إرادة الآخرة بعكس ذلك، وأما علامة إرادة الله سبحانه وتعالى كما قال {ويريدون وجهه} طرح الكونين والحرية عن الخلق والخلاص من يد النفس- انتهى، وحاصله أن يستغرق أوقاته في التوفية بحقوق الحق وحقوق الخلق وتزكية النفس لا طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار، بل امتثالاً لأمر الملك الأعلى الذي لا إله غيره لأنه أهل لذلك مع اعترافه لأنه لن يقدر الله حق قدره.


ولما تقرر ما شرع من الدين مما وصى به جميع النبيين فبانت أصوله، واتضحت فروعه وفصوله، وظهرت غرائبه وأشرقت فرائده وآياته، وختم بالقانون الأعظم في أمر الدارين مما هو مشاهد ولا يقدر عليه غيره، فكان التقدير من غير خفاء: هذا شرع الله الذي ارتضاه لعباده وحكم بأن الإقبال عليه غير ضار بطلب الرزق وقدر الأرزاق فلا قدرة لأحد أن يزيد في رزقه شيئاً، ولا أن ينقص منه شيئاً، أقبلوه؟ عادل ذلك بقوله تعالى مقرراً موبخاً منبهاً على ما هو الأصل في الضلال عن قوانينه المحررة وشرائعه الثابتة المقررة: {أم لهم} أي لهؤلاء الذيب يروغون يميناً وشمالاً {شركاء} على زعمهم شاركوا الشارع الذي مضى بيان عزته وظهور جلاله وعظمته في أمره حتى {شرعوا} أي الشركاء الذين طرقوا ونهجوا {لهم} أي للكفار، ويجوز أن يكون المعنى: شرع الكفار لشركائهم {من الدين} في العبادات والعادات التي تقرر في الأذهان أنه لا بد من الجزاء عليها لما جرت به عوائدهم عن محاسبة من تحت أيديهم وقدروا لهم من الأرزاق، وعدل عن أسلوب العظمة إلى الاسم الأعظم إشارة إلى ما فيه مع العظمة من الإكرام الذي من جملته الحلم المقتضي لعدم معاجلتهم بالأخذ فقال تعالى: {ما لم يأذن به الله} أي يمكن العباد منه بأمرهم به وتقريرهم عليه الملك الذي لا أمر لأحد معه، وقد محقت صفاته كل صفة وتضاءل عندها كل عظمة، فأقبلوا عليه دون غيره لكونه معتداً به، فإن كان كذلك فليسعدوا من أقبل على الدنيا التي هي محط أمرهم فلا يعرفون غيرها بأن يعطوه جميع مراده ويشقوا من أراد الآخرة وسعى لها سعيها، ونسب الشرع إلى الأوثان لأنها سببه كما كانت سبب الضلال في قوله سبحانه وتعالى حكاية عن إبراهيم خليله عليه الصلاة والسلام {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} ويضاف الشركاء إليهم تارة لأنهم متخذوها وتارة إلى الله تعالى لأنهم أشركوهم به، والعبارة تأتي بحسب المقام.
ولما علم قطعاً أن التقدير: فلولا أن هذه الأفعال التي يفعلونها من غير إذن منه لا تنقص من ملكه سبحانه شيئاً، ولا تضر إلا فاعلها مع أنها بإرادته، فكانت لمنعهم عنها لم يصلوا إلى شيء منها، عطف عليه قوله تعالى: {ولولا كلمة الفصل} التي سبق في الأزل أنها لا تكون ولما كان أمرهم هيناً، بني الفعل للمفعول، فقال: {لقُضي بينهم} أي بين الذين امتثلوا أمره فالتزموا شرعه وبين الذين اتبعوا ما شرعوه لمن سموهم شركاء في أقرب وقت ولكنه قد سبق القضاء في أزل الأزل بمقادير الأشياء وتحديدها على وجوه الحكمة، فهي تجري على ما حد لها لا تقدم لشيء منها ولا تأخر ولا تبدل ولا تغير، وستنكشف لكم الأمور وتظهر مخبآت المقدور فلا يقع الفصل إلا في الآخرة كما سبق به القضاء بأن يكون للمقسطين نعيم مقيم.
ولما كانوا ينكرون أن يقع بهم عذاب، قال مؤكداً عطفاً على ما قدرته بما أرشد إليه السياق: {وإن الظالمين} بشرع ما لم يأذن به الله من الشرك وغيره {لهم عذاب أليم} أي مؤلم بليغ إيلامه.
ولما علم من هذا السياق كما ترى أنه لا بد من الفصل، وأن الفصل لا يكون إلا يوم القيامة، قال شارحاً للفصل بين الفريقين في ذلك اليوم مقبلاً على خطاب أعلى الخلق إشارة إلى أن هذا لا يفهمه حق الفهم ويوقن به حق الإيقان غيره صلى الله عليه وسلم، أو يكون المراد كل من يصح أن يخاطب إشارة إلى أن الأمر في الوضوح بحيث لا يختص به أحد دون أحد فقال: {ترى} أي في ذلك اليوم لا يشك فيه عاقل لما له من الأدلة الفطرية الأولية والعقلية والنقلية {الظالمين} أي الواضعين الأشياء في غير مواضعها {مشفقين} أي خائفين أشد الخوف كما هو حال من يحاسبه من هو أعلى منه وهو مقصر. ولما كان الكلام في الذين ظلمهم صفة راسخة لهم، كان من المعلوم أن كل عملهم عليهم، فلذلك عبر بفعل الكسب مجرداً فقال: {مما كسبوا} أي عملوا معتقدين لأنه غاية ما ينفعهم {وهو} أي جزاءه ووباله الذي هو من جنسه حتى كأنه هو {واقع بهم} لا محالة من غير أن يزيدهم خوفهم إلا عذاباً في غمرات النيران، ذلك هو الخسران المبين، ذلك الذي ينذر به الذين ظلموا {والذين آمنوا} يصح أن يكون معطوفاً على مفعول {ترى} وأن يكون معطوفاً على جميع الجملة فيكون مبتدأ {وعملوا الصالحات} وهي التي أذن الله فيها غير خائفين مما كسبوا لأنهم مأذون لهم في فعله وهو مغفور لهم ما فرطوا فيه {في روضات الجنات} أي في الدنيا بما يلذذهم الله به من لذائد الأقوال والأعمال والمعارف والأحوال، وفي الآخرة حقيقة بلا زوال {لهم ما يشاؤون} أي دائماً أبداً كائن ذلك لكونه في غاية الحفظ والتربية والتنبيه على مثل هذا الحفظ لفت إلى صفة الإحسان، فقال: {عند ربهم} أي الذي لم يوصلهم إلى هذا الثواب العظيم إلا حسن تربيته لهم، ولطف بره بهم على حسب ما رباهم.
ولما ذكر ما لهم من الجزاء عظمه فقال: {ذلك} أي الجزاء العظيم الرتبة الجليل القدر {هو} لا غيره {الفضل} أي الذي هو أهل لأن يكون فاضلاً عن كفاية صاحبه، ولو بالغ في الإنفاق {الكبير} الذي ملأ جميع جهات الحاجة وصغر عنده كل ما ناله غيرهم من هذا الحطام، فالآية كما ترى من الاحتباك: أثبت الإشفاق أولاً دليلاً على حذف الأمن ثانياً، والجنات ثانياً دليلاً على حذف النيران أولاً.
ولما ذكر محلهم ومآلهم فيه، بين دوامه زيادة في تعظيمه فقال مبتدئاً: {ذلك} أي الأمر العظيم من الجنة ونعيمها، وأخبر عن المبتدأ بقوله: {الذي يبشر} أي مطلق بشارة عند من خفف وبشارة كثيرة عند من ثقل، وزاد البشارة بالاسم الأعظم، فقال لافتاً القول إليه: {الله} أي الملك الأعظم والعائد وهو {به} محذوف تفخيماً للمبشر به لأن السياق لتعظيمه بالبشارة وبجعلها بأداة البعد وبالوصف بالذي، وذكر الاسم الأعظم والتعبير بلفظ العباد مع الإضافة إلى ضميره سبحانه فأفهم حذفه أن الفعل واقع عليه واصل بغير واسطة إليه، فصار كأنه مذكور وظاهر ومنظور فقال: {عباده} ومن المعلوم أن كل أحد يعظم من اختصه لعبوديته.
ولما أشعر بالإضافة لصلاحهم، نص عليه بقوله: {الذين آمنوا} أي صدقوا بالغيب {وعملوا} تحقيقاً لإيمانهم {الصالحات} وذلك الذي مضى قلبه الذي ينذر به الذين كفروا. ولما كانت العادة جارية بأن البشير لا بد له من حياء وإن لم يسأل لأن بشارته قائمة مقام السؤال، قال كعب بن مالك رضي الله عنه: لما أذن الله بتوبته علينا ركض نحوي راكض على فرس وسعى ساع على رجليه، فأوفى على جبل سلع ونادى: يا كعب بن مالك أبشر، فقد تاب الله عليك، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته خلعت له ثوبي، فدفعتهما إليه، والله ما أملك يومئذ غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما- إلى آخر حديثه، كان كأنه قيل: ماذا تطلب على هذه البشارة، فأمر بالجواب بقوله: {قل} أي لمن توهم فيك ما جرت به عادة المبشرين: {لا أسئلكم} أي الآن ولا في مستقبل الزمان {عليه} أي البلاغ بشارة ونذارة {أجراً} أي وإن قل {إلا} أي لكن أسألكم {المودة} أي المحبة العظيمة الواسعة.
ولما كانوا يثابرون على صلة الأرحام وإن بعدت والأنساب لذلك قال: {في القربى} أي مظروفة فيها بحيث يكون القربى موضعاً للمودة وظرفاً لها، لا يخرج شيء من محبتكم عنها، فإنها بها يتم أمر الدين ويكمل الاجتماع فيه، فإنكم إذا وصلتم ما بيني وبينكم من الرحم لم تكذبوني بالباطل، ولم تردوا ما جئتكم به من سعادة الدارين، فأفلحتم كل الفلاح ودامت الألفة بيننا حتى نموت ثم ندخل الجنة فتستمر ألفتنا دائماً أبدا وقد شمل ذلك جميع القرابات ولم يكن بطن من قريش إلا وله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة، رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة، وروى البخاري عن سعيد بن جبير: إلا أن تؤدوني في قرابتي أي تبروهم وتحسنوا إليهم، قال ابن كثير: وقال السدي: لما جيء بعلي بن الحسين أسيراً فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة، فقال له علي: أقرأت القرآن؟ قال: نعم قال: ما قرأت {قلا لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} قال: وإنكم لأنتم هم، قال: نعم.
وعن العباس رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! إن قريشاً إذا لقي بعضهم بعضاً لقوهم ببشر حسن وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباَ شديداً وقال: «والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله»، وعنه أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا لنخرج فنرى قريشاً تحدث، فإذا رأونا سكتوا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودر عرق بين عينيه، ثم قال: «والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي» وعبر في المنقطع بأداة الاستثناء إعراقاً في النفي بالإعلام بأنه لا يستثني أجر أصلاً إلا هذه المودة إن قدر أحد أنها تكون أجراً، ويجوز أن تكون إلا بمعنى غير فيكون من باب:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
فمن كان بينه وبين أحد من المسلمين قرابة فهو مسؤول أن يراقب الله في قرابته تلك، فيصل صاحبها بكل ما تصل قدرته إليه من جميع ما أمره الله به من ثواب أو عقاب، فكيف بقرابة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن أبي ذر رضي الله عنه: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح عليه الصلاة والسلام، من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها هلك» وقال فيما رواه في الفردوس عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أصحابي بمنزلة النجوم في السماء بأيهم اقتديتم اهتديتم» قال الأصبهاني: ونحن الآن في بحر التكليف محتاجون إلى السفينة الصحيحة والنجوم الزارهة، فالسفينة حب الآل، والنجوم حب الصحب، فنرجو من الله السلامة والسعادة بحبهم في الدنيا والآخرة- والله أعلم.
ولما كان التقدير حتماً: فمن يقترف سيئة فعليه وزرها، ولكنه طوى لأن المقام للبشارة كما يدل عليه ختم الآية مع سابقه، عطف عليه قوله: {ومن يقترف} أي يكسب ويخالط ويعمل بجد واجتهاد وتعمد وعلاج {حسنة} أي ولو صغرت، وصرف القول إلى مظهر العظمة إشارة إلى أنه لا يزيد في الإحسان إلا العظماء، وإلى أن الإحسان قد يكون سبباً لعظمة المحسن فقال: {نزد} على عظمتنا {له فيها حسناً} بما لا يدخل تحت الوهم، ومن الزيادة أن يكون له مثل أجر من اقتدي به فيها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً، وهذا من أجر الرسل على إبلاغه إلى الأمم، فهم أغنياء عن طلب غيره- هذا إن اهتدوا به، وإن دعاهم فلم يهتدوا كان له مثل أجورهم لو اهتدوا، فإن عدم اهتدائهم ليس من تقصيره، بل قدر الله وما شاء فعل.
ولما كانوا يقولون: إنا قد ارتكبنا من المساوئ ما لم ينفع معه شيء، قال نافياً لذلك على سبيل التأكيد معللاً مبيناً بصرف القول إلى الاسم الأعظم أن مثل ذلك لا يقدر عليه ملك غيره على الإطلاق: {إن الله} أي الذي لا يتعاظمه شيء {غفور} لكل ذنب تاب منه صاحبه أو كان يقبل الغفران وإن لم يتب منه إن شاء، فلا يصدن أحداً سيئة عملها عن الإقبال على الحسنة.
ولما كان إثبات الحسنة فضلاً عن الزياة عليها لا يصح إلا مع الغفران، ولا يمكن أن يكون مع المناقشة، فذكر ذلك الوصف الذي هو أساس الزيادة، أفادها- أي الزيادة- بقوله: {شكور} فهو يجزي بالحسنة أضعافها ويترك سائر حقوقه. ولما أثبت أنه أنزل الكتاب بالحق، ودل على ذلك إلى أن ختم بنفي الغرض في البلاغ فحصل القطع بمضمون الخبر، كان كأنه قيل إنكاراً عليهم وتوبيخاً لهم: هل عملوا بما نبهناهم عليه مما يدعون أنهم عريقون فيه من صلة الرحم والإقبال على معالي الأخلاق باجتناب السئيات وارتكاب الحسنات، والبعد عن الكذب والمكابرة والبهتان، فاعتقدوا أنه حق وأنه وحي من عند الله بما قام على ذلك من البرهان: {أم يقولون} عناداً: {افترى} أي تعمد أن يقطع، وقدم ذكر الملك الأعظم تنبيهاً على أنه لا أفظع من الكذب على ملك الملوك مع فهم المفعول به من لفظ الافتراء فقال: {على الله} الذي أحاط بصفات الكمال، فله العلم الشامل بمن يتقول عليه والقدرة التامة على عقابه {كذباً} حين زعم أن هذا القرآن من عنده وأنه أرسله لهذا الدين.
ولما كان التقدير قطعاً: إنهم ليقولون ذلك وكان قولهم له قولاً معلوم البطلان لأنه تحداهم بشيء من مثله في زعمهم أن له مثلاً ليعلم صحة قولهم فلم يأتوا بشيء وهم وإن كانوا قد يدعون أنه يمنعهم من ذلك أنهم لا يستجيزون الكذب مبطلون لا يمتري عاقل في بطلان ذلك منهم أيضاً لأنهم لم يكلب منهم أن ينسوا ما يأتون به إلى الله على أنه لو طلب منهم ذلك لما كان عذراً، لأنه لا يتوقف أحد في أن الضرورات تبيح المحذورات، وأنه يرتكب أخف الضررين لدفع أثقلهما، فالإتيان بكلام يسر يسكن به فتن طوال وتنقطع به شرور كبار في غاية الحسن لأن الخطب فيه سهل، والأمر يسير، فكان ذلك وهم يرتكبون أكبر منه من قطع الأرحام وتفريق الكلمة لقتل النفوس وتخريب الديار وإتلاف الأموال دليلاً قاطعاً على أنهم إنما يتركونه عجزاً، تسبب عن قولهم هذا وهو نسبتهم له إلى تعمد الكذب أن قال تعالى رداً عليهم ببيان كذبهم فيما قالوا ببيان ما له صلى الله عليه وسلم من نور القلب اللازم عن استقامة القول: {فإن} وأظهر الجلالة ولم يضمر تعظيماً للأمر بأن الختم لا يقدر عليه إلا المتصف بجميع صفات الكمال على الإطلاق من غير تقيد بقيد أصلاً فقال: {يشأ الله} أي الذي له الإحاطة بالكمال {يختم} وجرى على الأسلوب السابق في الخطاب لأعظم أولي الألباب فقال معبراً بأداة الاستعلاء: {على قلبك} فيمنعه من قبول روح هذا الوحي كما ختم على قلوب أعدائك من قبول ذلك، فتستوي حينئذ معهم في عدم القدرة على الإتيان بشيء منه وتصير لو قلت وقد أعاذك الله عما يقولون مما يصح نسبته إلى الباطل لم تقله إلا ومعه الأدلة قائمة على بطلانه كما أنهم هم كذلك لا يزالون مفضوحين بما على أقوالهم من الأدلة قائمة على بطلانها، وكان الأصل في الكلام: أم يقولون ذلك وأنهم لكاذبون فيه بسبب أن الله قد شرح صدرك وأنار قلبك فلا تقول فولاً إلا كانت الأدلة قائمة على صدقه، ولكنه ساق الكلام هكذا لأنه مع كونه أنصف دال على تعليق بالافتراء على ختم القلوب، وذلك دال قطعاً على أنهم هم الكاذبون لما على قلوبهم من الختم الموجب لأنها تقول ما الأدلة قائمة على كذبه.
ولما كان التقدير كما دل عليه السياق: ولكنه لم يشأ ذلك، بل شاء جعله قابلاً لروح الوحي واعياً لفنون العلم فهو يقذف بأنواع المعارف، ويهتف بتلقي أعاجيب اللطائف، ويثبت الله ذلك كله من غير مانع ولا صارف، عطف عليه قوله: {ويمحُ الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {الباطل} وهو قولهم {افترى} وكل كذب فلا يدع له أثراً، وهنالك يظهر خسران الجاحد وينقطع لسان الألد المعاند، ولم يذكر أن آلة المحو الكلمات وغيرها استهانة به بالإشارة إلى أنه تارة يمحوه بنفسه بلا سبب وتارة بأضعف الأسباب وتارة بأعلى منه، وحذفت واوه في الخط في جميع المصاحف مع أنه استئناف غير داخل في الجواب لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقاً إيماء إلى أنه سبحانه يمحق رفعه وعلوه وغلبته التي دلت عليها الواو مطابقة بين خطه ولفظه، ومعناه تأكيداً للبشارة يمحوه محواً لا يدع له عيناً ولا أثراً لمن ثبت لصولته: وصبر كما أمر لحولته، اعتماداً على صادق وعد الله إيماناً بالغيب وثقة بالرسل عليهم الصلاة والسلام، وفي الحذف أيضاً تشبيه له بفعل الأمر إيماء إلى أن إيقاع هذا المحو أمر لا بد من كونه على أتم الوجوه وأحكمها وأعلاها وأتقنها كما يكون المأمور به من الملك المطاع، وأما الحق فإنه ثابت شديد مضاعف فلذا قال: {ويحق} أي يثبت على وجه لا يمكن زواله {الحق} أي كل من شأنه الثبات لأنه أذن فيه وأقره، وعظم الحق وإحقاقه بذكر آلة الفعل فقال: {بكلماته} أي التي {لو كان البحر مداداً} [الكهف: 109] الآية التي يقولون إن ما أتاهم من العبارة عنها افتراء للكذب، والحاصل أنه سبحانه أثبت صفاء لبه ونورانية قلبه وسداد قوله وصاب أمره، وظلام قلوبهم وبطلان أقوالهم إثباتاً مقروناً بدليله أما لأهل البصائر فبعجزهم عن معارضته، وأما للأغبياء فإبثات قوله ومحو قولهم.
ولما كانوا يعلمون أنه على حق وهم على باطل، وكان من أحاط علمه بشيء قدر على ما يريده من ذلك الشيء، بين ذلك بقوله معللاً على وجه التأكيد لأن عملهم عمل من يظن أن الله لا يعلم مكرهم: {إنه عليم} أي بالغ {بذات الصدور} أي ما هو فيها مما يعلمه صاحبه ومما لا يعلمه فيبطل باطله ويثبت حقه وإن كره الخلائق ذلك {ولتعلمن نبأه بعد حين} [ص: 88] ولقد صدق الله فأثبت ببركة هذا القرآن كل ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم وأبطل بسيف هذا البرهان كل ما كانوا يخالفونه فيه، ومن أصدق من الله قيلاً.

1 | 2 | 3 | 4 | 5